أرقام رسمية تكشف وقوف عدة مناطق في المغرب على حافة العطش في ظل تباين صارخ بين الأحواض المائية
كشفت وضعية مخزونات السدود بالمغرب عن صورة مركّبة لوضع مائي يتأرجح بين تحسّن حسابي محدود، ومخاطر بنيوية عميقة، في وقت يتواصل فيه استنزاف الموارد المائية تحت ضغط الطلب الداخلي والسياسة الفلاحية التصديرية الموجَّهة للأسواق الخارجية.
وأكدت الأرقام الرسمية المسجّلة أن البلاد لم تعد تملك رفاهَ الزمن في تدبير الماء، وأن خيار تحلية مياه البحر تحوّل إلى رهان استراتيجي لتفادي العطش وتأمين الأمن الغذائي، وضمان الاستقرار الاجتماعي، في سياق مناخي يتغير بوتيرة متسارعة، مقابل استمرار اختيارات حكومية إنتاجية تستهلك كميات ضخمة من المورد المائي النادر.
فبحسب المعطيات الرسمية التي كشفتها وزارة التجهيز والماء، بلغ المخزون الإجمالي للسدود 16.762,51 مليون متر مكعب، بنسبة ملء تناهز 31,10 في المائة، مقابل 29,11 في المائة في اليوم نفسه من السنة الماضية.
وعلى الورق، يبدو هذا الارتفاع تقدما طفيفا، لكنه في العمق لا يغيّر كثيرا من جوهر الأزمة التي تفيد بأن أكثر من ثلثي حقينة السدود لا تزال فارغة في بلد يزداد فيه الطلب على الماء سنة بعد أخرى بفعل النمو الديمغرافي، واتساع الرقعة العمرانية واستمرار اختيارات فلاحية كثيفة الاستهلاك للمياه، في وقت تتراجع فيه الواردات المائية بفعل توالي سنوات الجفاف وتغير النمط المطري.
وما تعكسه هذه الأرقام ليس فقط محدودية التحسن، بل أيضا هشاشة التوازن العام بين العرض والطلب فالمغرب يعيش اليوم وضعا مائيا بالغ التعقيد، حيث لا يكفي تسجيل ارتفاع نسبي في المخزون السنوي لطمأنة الرأي العام أو صناع القرار لأن الضغط البنيوي على الموارد المائية يفوق بكثير سرعة إعادة ملء السدود فالتبخر الناجم عن ارتفاع الحرارة، وتراجع الفرشات الجوفية، واستنزاف المياه في السقي التقليدي، كلها عوامل تجعل أي تحسن ظرفي أقرب إلى هدنة قصيرة في مسار طويل من الإجهاد المائي المتواصل.
ويزداد هذا الواقع تعقيدا حين ننظر إلى التفاوتات المجالية الصارخة بين الأحواض، فحوض اللوكوس، الذي يُعد من بين الأحواض التي حافظت على وضعية مريحة نسبيا، تسجّل بعض سدوده نسب ملء تتجاوز 60 في المائة، كما هو الحال بالنسبة لسد واد المخازن الذي بلغ 73 في المائة، وسد الشريف الإدريسي الذي وصل إلى 81 في المائة.
كما سُجلت نسبة مرتفعة بسد النخلة بلغت 96,69 في المائة، وهو رقم يعكس حجم التفاوت داخل الحوض نفسه، غير أن هذه الصورة "المطمئنة جزئيا" لا تكتمل إلا حين يُستحضر الوجه الآخر داخل الحوض ذاته، حيث بقيت سدود أخرى في وضعية حرجة للغاية، مثل سد عبد الكريم الخطابي الذي لم تتجاوز نسبة ملئه 10 في المائة، وهو ما يعكس اختلالا بنيويا في التوزيع وفي دينامية التعبئة المائية.
أما المؤشرات القادمة من حوض ملوية فتظل، وفق مختلف المؤشرات، من بين الأكثر إثارة للقلق على الصعيد الوطني، إذ لم تتجاوز نسبة ملء مجموع السدود بهذا الحوض 26,42 في المائة، في منطقة تُعد من أكثر الجهات هشاشة من حيث الإجهاد المائي، وتعاني منذ سنوات من انعكاسات الجفاف المتكرر، وتراجع الواردات المائية السطحية، والاستغلال المفرط للفرشات الجوفية.
هذا التفاوت الحاد بين الأحواض لا يعكس فقط اختلافا في التساقطات، بل يكشف أيضا محدودية نجاعة السياسات الترابية في تدبير الماء، ويطرح أسئلة عميقة حول العدالة المائية وقدرة الدولة على ضمان توزيع متوازن للموارد في ظل ضغط مناخي متسارع فبين شمال ما يزال يستفيد نسبيا من روافد مائية وشرق يعاني من تراجع بنيوي في الموارد وجنوب ينتظر التحلية باعتبارها "المَرْساة الأخيرة" يتّضح أن المغرب يدخل تدريجيا مرحلة إعادة رسم خريطة الماء داخل ترابه.
في هذا السياق، يفرض خيار تحلية مياه البحر نفسه باعتباره المسار الأكثر واقعية لتأمين الحد الأدنى من الأمن المائي في السنوات القادمة، فالدولة تتحدث كرافعة مركزية ضمن الاستراتيجية الوطنية للماء، خصوصا لتأمين تزويد المدن الكبرى والمناطق الساحلية بالماء الصالح للشرب غير أن هذا التحول الاستراتيجي رغم ضرورته لا يخلو من إشكالات مرتبطة بكلفته المالية المرتفعة، استهلاكه الكبير للطاقة، رهاناته البيئية، وحدود قدرته على تعويض العجز الهيكلي في الموارد الطبيعية القارية.
وبالفعل، التحلية قادرة على توفير الماء للمدن، لكنها لا تستطيع وحدها تأمين الحاجيات الضخمة للقطاع الفلاحي الذي يظل أكبر مستهلك للمياه في المغرب وهنا يتجلى مكمن التوتر الحقيقي فالأمن المائي لا ينفصل عن الأمن الغذائي، وأي إخلال بأحدهما ينعكس مباشرة على الآخر فلا معنى لتأمين ماء الشرب إن ظلت الفلاحة رهينة لسدود مُجهدة، وفرشات جوفية تتراجع، وأنماط إنتاج لا تراعي الندرة البنيوية للماء.
المفارقة أن هذا الوضع المائي المعقّد يتزامن مع استمرار اختيارات زراعية تعتمد على محاصيل شرهة للماء، وعلى أنظمة سقي لا تزال في جزء منها تقليدية أو غير مضبوطة بما يكفي وفي الوقت نفسه تتوسع المدن، وترتفع حاجيات الصناعة والسياحة، ويتضاعف الطلب المنزلي، بينما لا تنمو الموارد الطبيعية بنفس الوتيرة وهذه المعادلة المختلّة تجعل من أي تحسن ظرفي في المخزون مجرد مهلة قصيرة قبل عودة التوتر بأشكال أشد حدّة.
وما تعكسه الأرقام الرسمية الصادرة فيي 8 دجنبر 2025 هي مؤشر عميق على دخول المغرب مرحلة "الندرة الهيكلية للماء" حيث لم تعد الأزمة مرتبطة بسنة جافة أو موسمين شحيحين، بل بطبيعة جديدة للعلاقة بين الإنسان والموارد في بلد يقع في قلب الحزام شبه الجاف وهي لحظة الانتقال من منطق تدبير الندرة المؤقتة إلى منطق إدارة الندرة الدائمة.
وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن الماء حديثا عن السيادة، عن الاستقرار الاجتماعي، عن توازنات الاقتصاد، عن الهجرة القروية، وعن مستقبل الحواضر الكبرى. فالعطش صار متغيرا سياسيا واقتصاديا كاملا، قادرا على إعادة ترتيب الأولويات، وعلى فرض مراجعة جذرية للنموذج التنموي في شقه المتعلق بالموارد الطبيعية.
وفي هذا الإطار، يقول الخبير المغربي في هندسة الموارد المائية وسياسات الانتقال البيئي، محمد رياحي، إن المملكة أمام تحوّل صامت في الجغرافيا الهيدرولوجية للمغرب، موردا أن ما يجري ليس أزمة عابرة مرتبطة بسنة مطرية ضعيفة بل إعادة تشكيل بطيئة لدورة الماء نفسها أي المطر يتراجع، التبخر يتسارع، والفرشات تستنزف بوتيرة أسرع من قدرتها الطبيعية على التجدد.
وشدّد الخبير ذاته في تصريحه لـ "الصحيفة"، على أن هذا أخطر ما في المشهد، "لأننا نستهلك اليوم موردا لا يُعاد إنتاجه بنفس الإيقاع فيما التحلية تمنح للدولة هامش أمان حضري لكنها لا تعالج جوهر المفارقة وهو منظومة إنتاج غذائي مبنية تاريخيا على منطق وفرة لم يعد قائما".
وزاد المتحدث: "نحن بحاجة إلى قرار سيادي جديد يعتبر الماء قيدا بنيويا في كل السياسات العمومية لا متغيرا تقنيا يُعالَج لاحقالا يمكن أن نُخطّط للفلاحة ولا للصناعة ولا للاستثمار الترابي، دون أن يكون الماء أول سؤال في المعادلةو دون ذلك، سنظل نتحرك داخل منطق ترقيعي نسدّ العجز هنا، فنصنع اختلالا أكبر هناك".
ويضيف رياحي بنبرة سياسية أوضح "لا يمكن الاستمرار في الحديث عن الجفاف باعتباره قدَرا طبيعيا بينما تُظهر الأرقام أن أكثر من 85 في المائة من الموارد المائية في المغرب تُوجَّه للقطاع الفلاحي، وأن جزءا مهما منها يُستهلك في فلاحة تصديرية موجَّهة للأسواق الأوروبية، من قبيل الأفوكادو، والبطيخ الأحمر، والحوامض. نحن أمام مفارقة خطيرة ماء نادر يُستنزف لإنتاج سلع مائية عالية الكلفة تُشحن إلى الخارج".
وحذّر الخبير، من أنه في مناطق مثل سوس ماسة، وسايس، وشتوكة آيت باها، تجاوز عجز الفرشات الجوفية في بعض السنوات 300 مليون متر مكعب سنويا وفق معطيات رسمية، مع انخفاض منسوب المياه الجوفية بأكثر من متر إلى مترين سنويا في عدد من النقاط وهذا ليس استنزافا عاديا، بل تفكيك بطيء لاحتياطي استراتيجي غير قابل للتعويض في الأفق المنظور".
ويرى رياحي أن السياسة الحكومية رغم كل ما تعلنه من برامج "ما تزال مترددة في مواجهة اللوبيات الفلاحية الكبرى التي راكمت أرباحا على حساب الفرشة المائية وهناك حديث عن تحلية وعن السدود، لكن لا يوجد إلى اليوم قرار سياسي صارم يربط التصدير بشرط الماء، ولا يحد من زراعة المحاصيل الشرهة في الأحواض الأكثر هشاشة".
واعتبر أن الدولة تعالج العطش من المنبع التقني، وتؤجله من منبع القرار السياسي، مضيفا: "إذا استمر هذا التناقض بين خطاب ندرة الماء وممارسة فلاحة تصديرية عالية الاستنزاف، فإننا سنصل إلى لحظة يصبح فيها الماء المحلّى نفسه موجها لتعويض استنزاف سببه التصدير أي أن المواطن سيتحمّل كلفة مائية مضاعفة مرة عبر الضرائب، ومرة عبر فقدان أمنه المائي".




